2022/09/02 | 0 | 1820
المطيري رائدا في الفلسفة الأخلاقية.
كنت محظوظا في لقاء استثنائي قد جمعني بالأستاذ الفاضل الدكتور عبد الله المطيري مدير جمعية الفلسفة في السعودية.
وقد اتحفني الأستاذ بكتابه الرائع فلسفة الآخرية، وبعنوان فرعي الآخر بين سارتر وليفناس وبهجة الضيافة.
ولا أخفيك أخي القارئ العزيز بأنه عندما وقعت عيني على عنوان الكتاب قد ثارت الكثير من الأسئلة في ذهني، كيف لعربي أصيل قد ورث مكارم الأخلاق كابر عن كابر يكتب عن سارتر الملحد وليفناس اليهودي؟ وكيف لشخص ينتمي لقبيلة عريقة قد قيل عن جدها عامر بن صعصعة لولا قصي بن كلاب (مؤسس قبيلة قريش ومجمع قبائلها) لآلت زعامة العرب لعامر بن صعصعة وابن قبيلة قد وصفت بأنها انجبت الفحول من العرب؟ ولكن ماذا يقصد ببهجة الضيافة فهذا مصطلح لم يسبق لي أن اطلعت عليه وما علاقته بسارتر وليفيناس؟
وفي نفس تلك اللحظة كنت أحاول البحث عن أجوبة سريعة ولكن هيهات أن تنال الدرة بهذه السرعة من بحر عميق؟
لذلك انتقلت بسرعة إلى آخر الكتاب علني أفهم شيئا من فكر الكاتب من خلال المصادر؟ ولكن مصادره قد زادت حيرتي لثرائها وكثرة المصادر الغربية وقلة العربية، وكأن الكاتب كان يسبح في بحر لا أعرفه؟ فكان لزاما أن أخوض في هذا البحر باحثا عن الدرر الكامنة في أعماقه، ومن الليلة الأولى لم أستطع النوم حتى أتممت قراءة الفصل الأول، ولكن هذا لم يشفي الغليل، ولم أكتشف بعد السر الذي قد قصده الكاتب من كلمة بهجة الضيافة.
فقررت أن أقرأ الكتاب بصفاء ذهني أكبر وأعود لقراءته بعد إتمام بحث كنت مشغولا به.
وبعد مدة من الزمن عدت إلى الكتاب بشغف أكبر متسلحا بالقلم للتحديد والتعليق والنقد والتلخيص، وقد أعدت قراءة الفصل الأول مرة أخرى بتأني وتأمل أكبر، لكي لا ينقطع حبل الأفكار المتسلسة التي تربط فصول الكتاب، فالكاتب قد سار بشكل منهجي في أطروحة الكتاب.
فجاء الفصل الأول بعنوان مقدمة في فلسفة الآخرية، وفي هذا الفصل حاول الكاتب أن يفرق بين الذاتية التي تنبع من الأنانية وإقصاء الآخر أو ابتلاعه وافتراسه وبين الآخرية التي تنبع من الاحتفاء بالآخر وتبجيله، فالذاتية المتوحشة والقاسية يمثلها سارتر، وأما الآخرية الكريمة والعادلة تجاه الآخر يمثلها ليفيناس.
ولا يفوت الكاتب أن يستعرض أوجه الاختلاف والشبه بين الاتجاهين، وكيف أن هذا الخلاف مرتبط بالأسس والمبادئ التي ستترك أثرا واضحا في الطبيعة واللغة.
ثم يحاول الكاتب الاقتراب أكثر من الآخرية فيبحث عن السياقات التي قد طرحت الآخرية فيه، ويحاول الاقتراب مرة أخرى أكثر ليبحث عن تعريفها ومحاولات التعرف عليها فيستعرض المحاولات والمدارس الأخلاقية ليصل إلى نتيجة مهمة، وهي أن الأخلاق سابقة للمعرفة بل هي أساسها.
وأما لماذا يعقد المطيري المقارنة بين سارتر وليفيناس؟
فالجواب أن لهذه المقارنة مبررات أهمها:
1- لوجود أوجه كثيرة للشبه والاختلاف مما يؤدي إلى حالة تنافر وتقارب ورد وجذب في الآن نفسه.
2- انتماء الاثنين لنفس المدرسة الفلسفية وهي الفلسفة الظاهراتية.
3- انتماء الاثنين لنفس الحقبة الزمنية ولنفس البلد ( فرنسا) ومعاصرتها لنفس الأحداث كالحربين العالميتين مع اختلاف في الدين والعرق.
4- اختلافهما في الرمزية والشعارية تجاه الآخر، فالسارترية شعارها رمي الآخرين بالجحيم والليفيناسية شعارها العناية بالآخرين.
5- سارتر يرى استحالة الأخلاق بينما لفيناس يرى أصالة الأخلاق، وأنها هي الفلسفة الأولى.
وفي الفصل الثاني يسلط الكاتب الضوء على المدرسة الفلسفية التي ينتمي إليها الاثنين التي هي الظاهراتية، وهي الاتجاه الفلسفي الذي يجعل الوعي محورا لدراساته الفلسفية، وكيف يتشكل الوعي من خلال التجارب الشخصية، فتتطور لديه الخبرة الذاتية، ويعتبر هوسرل مؤسس هذه الطريقة الفلسفية، وهو بدوره قد استلهمها من عبارة ديكارت أنا أفكر أنا موجود، ولكنه ذهب مع هذه العبارة باتجاه الجانب النفسي أكثر، وأغفل جانب الاثبات الوجودي الذي كان ديكارت في سياقه، وهو الانتقال من اثبات وجود النفس إلى وجود خالقها.
ويحاول الكاتب تقديم قراءة للاتجاه الظاهراتي فيستعرض نشأتها، ووتطورها وتفرعها وأهم شخصياته وأهم نظرياتها وأهم تطبيقاتها، وكنت أتمنى أن يقف الكاتب على بعض النقاط المهمة في علاقة المدرسة بمن سبقها، ولكن هذه الأمنية لا مجال لها لأنها ربما ستكون إطالة مخلة بالغرض الأساسي للكتاب.
وفي الفصل الثالث يسافر بنا الكاتب إلى رحاب عالم سارتر المظلم والمرعب، الذي يرى أن أولى الأولويات للإنسان هي الصراع مع الآخر وتمزيقه والقضاء عليه، بلا رحمة ولا أسف عليه، وإن هذه العدائية تولد في الإنسان مع اللحظة الأولى لولادة الوعي، وفي اللحظة الأولى للنظرة الأولى التي تقع فيها العين على ذات أخرى، فتريد كل ذات تحقيق ذاتها على حساب الآخر بالهيمنة عليه، وفي هذا الفصل يستعرض الكاتب أساسيات هذه المدرسة، وأهم أفكارها وتصوراتها، مع شرح لأسباب هذا الصراع ومبرراته وكيف يمكن احتواءه، ويختم هذا الفصل بتقدير رؤية نقدية.
وفي الفصل الرابع يعود بنا الكاتب للدخول في عالم ليفيناس حيث ترحب بنا الوجوه المستبشره بكرم الضيافة، حيث تحل العناية بالآخر محل الصراع مع الآخر، ولكي تعود الأخلاق لتكون هي سيدة الموقف في عالم المعرفة، وفي عالم الحياة الاجتماعية والسياسية، وفي عالم الميتافيزيقيا، ويتحول الآخر إلى طريق للكمال والسمو اللامتناهي بدلا من أن يكون عدوا، ولابد للسمو اللامتناهي من بوابة ينفتح بها على عالم الآخر، وهذه البوابة هي الوجه الذي يعبر عن الذات الأخرى، ولهذه البوابة طريقتها الخاصة في الانفتاح والتواصل من خلال الارسال والاستقبال، وهذه الطريقة هي اللغة فهي التي تحمل الأفكار والمشاعر، وهي الطريق لإبراز العناية والاحتفاء بالآخر وتبجيله.
فيستعرض الكاتب ملامح هذه المدرسة وأهم مبادئها بشرح وافي لها، ويختم الفصل بملاحظات ونقد.
وفي الفصل الخامس يعود الكاتب لعقد مقارنة أخيرة بين الاتجاهين، ولكن هذه المرة يكون قد هيأ القارئ لمقارنة أكثر عمقا بعد أن شرح الاتجاهين شرحا وافيا في الفصل الثالث والرابع، وفي هذا الفصل يتحدث عن اللقاء الأول للذات بذات أخرى، وعن تشكل الوعي قبل اللقاء وحين اللقاء وبعد اللقاء.
قبل اللقاء: يرى سارتر يكون لدى الإنسان حرية مطلقة، وسيادة كاملة بلا أي مسؤولية بلا التزام بلا قيود، بينما لفيناس يرى أن الإنسان يعيش حالة من الاستمتاع بالعالم متعة ذاتية فردية بريئة غير متواصلة مع الآخر.
لحظة اللقاء: يرى سارتر أن إدراك الذات الأخرى يحد من الحرية، ويحول الذات إلى موضوع عند الذات الأخرى ليولد الصراع بين الذاتين في محاولة كل منهما التسيّد على الآخر.
بينما ليفيناس يرى أن إدراك وجود الذات الأخرى صدمة للوعي تخرجه من عالم العزلة والاستمتاع، صدمة تحدث له انكسار وتواضع فيطلب رضا الآخرين وسعادتهم، فيرى ذات أخرى لها الحق في الاستمتاع أيضا بل لها الأولوية في الاستمتاع، فيتحول الانفتاح على الآخر إلى عطاء ومنح، وهكذا تتأسس الأخلاق.
بعد اللقاء: يرى سارتر أن الآخر حد للوعي وميلاد كينونة جديدة، وتنشأ حالة صراع وتكون النظرة هي حلبة الصراع، وليفيناس يرى أن الآخر انفتاح على العالم، و مغادرة للأنانية وأن الوجود من أجل الآخر، وتنشأ حالة اهتمام بالآخر يكون الوجه هو مركز اهتمامها.
وفي الفصل السادس والأخير يتحفنا المؤلف بدرة ثمينة وجوهرة نفيسة فيأتينا بفكرة رائدة، تكشف عن ذوق سليم، وفكر قويم، ويلامس صميم الفطرة، ويصيب جوهر الفكرة، فنراه يقتنص من ليفيناس مبدأ الضيافة القائم على الترحيب والتبجيل للآخر، ولا يكتفي بهذا الحد من التنظير في الأخلاق، الذي لا يرضي طموحه فيتطلع إلى آفاق جديدة، وإلى تنظيرات أعمق، فيسعى جاهدا لإكمال بناء المنهج الأخلاقي بنظر ثاقب وعزيمة لا تلين.
فلا يجد مصداقا لمبدأ الضيافة غير المشروط إلا ثقافتنا العربية الأصيلة، التي يعتبر فيها أدب الضيافة أعلى مراتب الأخلاق، فالثقافة العربية منذ أقدم عصورها جعلت الضيافة عنوان الكرم، والكرم سيد الفضائل، وجعلت المكارم أعلى درجات الأخلاق، بل جعلوا المأدبة هي أدب الضيافة، وأدب الضيافة أنموذجا لكل أنواع الأدب، فصار الأدب أدبان أدب نفس أدب لسان، بل رفعوا من مقام الأدب فجعلوه أساس العلم، فصار التأديب مساوي للتعليم، ولا خير في علم بلا أدب.
وهنا وجدنا كاتبنا القدير والعربي الأصيل يثور ثورة فلسفية، يعيد أمجاد مكارم الأخلاق العربية، ويطرحا بلغة العصر، وبثوب فلسفي عميق، ويجعلها أنموذجا للفلسفة العميقة التي تنسجم مع الفطرة، وتنسجم مع العقلانية، وتنسجم مع العلوم الحديثة، وتنسجم مع الدين الصحيح، وأن هذا الطرح الفلسفي الأخلاقي العميق والدقيق لهو مشعل هداية لكل الفلسفات الأخلاقية الحديثة التي ظلت تتخبط وتبتعد عن جوهر الإنسانية المتمثل في الجانب الأخلاقي وبالأخص في جانب الكرم والعطاء، وفي العودة لهذه الأخلاق علاج لمعظم الأمراض الأخلاقي التي يعاني منها العالم أجمع، والتي استفحل أمرها في العالم الغربي، فأرادوا علاجها بفلسفات بعيدة عن الفطرة، فما كان منهم إلا أن ساهموا في تعقيد المشهد، وإعلاء شأن الأنانية وتغييب الأخلاق الفطرية.
وفي الختام لا يسعني إلا أن أرفع غترتي وعقالي احتراما وإجلالا لهذا الكتاب الرائع، الذي اطربني بعمقه الفلسفي الذي أصاب كبد الفطرة الإنسانية وحافظ على روح السليقة العربية الأصيلة وبث فيها نبضا جديدا.
جديد الموقع
- 2025-01-14 أسرة المهناء بالمطيرفي تحتفي بزفاف ابناء الحاج "جواد " تهانينا
- 2025-01-14 " المؤرخ وتدوين تاريخ الأحساء الموسوعي "
- 2025-01-14 أسباب الإخفاق في الإلتزام بقرارات العام الجديد
- 2025-01-14 هل بإمكان الجزر أن ينظم نسبة السكر في الدم؟
- 2025-01-14 محتوى الكلمات ينشط العمليات الدماغية التي تجري في اللاوعي وتشكل انفعالاتنا وقراراتنا وسلوكنا
- 2025-01-13 تنظيم علاقة الإنسان بريه
- 2025-01-12 إل جي تطلق متجرها الرائد في المملكة العربية السعودية بحفل افتتاح كبير
- 2025-01-12 البلادي يشدو بشدة القافلة في أمسية غناء البادية في ختام "معرض الإبل عبر العصور"
- 2025-01-12 7 شعراء يؤثّثون سادس أمسيات مهرجان الشارقة للشعر العربي
- 2025-01-12 تحت شعار تمرنا من خير واحتنا سمو أمير الشرقية يرعى انطلاقة النسخة العاشرة من مهرجان تمور الأحساء المصنّعة